القائمة الرئيسية

الصفحات

فقه اللغة - المحاضرة الأولى




فقه اللغة بين النظرين اللساني والفلسفي    


تمهيد

لا تدرك أهمية الشيء بكثرة البراهين على ضرورته، بقدر ما ندركها في اللحظة التي نتخيل فيها ذواتنا دونه، وإذا جربنا الاستغناء عن اللغة بكل أنواعها (العاقلة – الإرادية) اللاإرادية، لن ندرك أهميتها فقط، بل ماهيتها، سنجد أن الصمت لغة، وأن التفكير في صمت يستحيل دون لغة.

فماهي هذه الأداة التي يتوقف العقل بتوقفها؟

 

1- حقيقة اللغة في النظر اللغوي العربي

إن درس فقه اللغة منذ القدم مرتبط بالبحث عن الحقيقة (حقيقة اللغة)، حيث نجد ابن جني (ت 392ه) يبحث عنها في كتابه الخصائص {باب القول على أصل اللغة أ إلهام هي أم اصلاح}، وينطلق من القول "أن هذا موضع محوج إلى فضل تأمل؛ غير أن أكثر أهل النظر على أن أصل اللغة هو تواضع واصطلاح، لا وحي (وتوقيف). إلا أن أبا علي رحمه الله، قال لي يوما: هي من عند الله، واحتج بقوله سبحانه: {وعلم آدم الأسماء كلها} وهذا لا يتناول موضع الخلاف، وذلك أنه قد يجوز أن يكون تأويله: أقدر آدم على أن واضع عليها1"

ليخلص ابن جني إلى اتخاذ موقف المتردد بين الوقف والاصطلاح، والسبب في نظرنا يعود لعقيدته المعتزلة، فهو يعلم أن الإقرار بوقفية اللغة يتوافق ومذهب الأشاعرة، لكن هذا لم يمنعه من أن يجمع في كتابه اجتهادات التيار الوقفي في تفسير معنى الآية الكريمة، حيث نلاحظ في النص السابق طرح مفهوم القدرة، لكنهم اختلفوا في معنى الأسماء وفي مفهوم الكلية، منهم من عدهما أسماء المخلوقات والأشياء بجميع الألسن، وهذا التفسير لا يحمل أي مقاربة علمية، ومنهم من جعل الأسماء تشمل مفردات اللغة التي تنضوي تحتها الأسماء والأفعال والحروف كون الاسم أقوى القبل الثلاثة، كأن يخاطب الله عز وجل  بجمع المذكر الجنسين معا..

ومن المهم أيضا أن ننطلق من تقسيم {ابن فارس (ت 395ه) وهو معلم ابن جني} في كتابه الصاحبي، اللغة العربية إلى قسمين، أصل وفرع2.

" ويفهم من كلام ابن فارس أن الأصل هو الذي ينبغي على عالم اللغة أن يهتم به، وأما الفرع هو الذي يهتم به معلم اللغة، والفرق بين العالم والمعلم، أن العالم يبحث عن حقائق وأسرار الظواهر اللغوية لكي يكشف عن القوانين التي تحكمها، أما المعلم فهو الذي يسأل عن الجائز وغير الجائز، والصحيح وغير الصحيح كي يعلمه للناس"3

بالرغم من أن ابن فارس والدكتور حلمي خليل ربطا موضوع الأصل والفرع بدور الباحث والمعلم ولم يكتفيا في شرحهما بجعل التقسيم يخص اللغة لا الوظائف، إلا أننا نستشف من كلا القولين، أن اللغة قسمان: قسم هو أصل اللغة ومنشؤها، وقسم هو الفرع المسؤول عن انتاج اللغة.

 

2- حقيقة اللغة في النظر الفلسفي

ننطلق من فرضية أن أصل اللغة توقيفي، بمفهوم القدرة كما جاء في الجزء السابق ونؤسس للنظر الفلسفي بالخطاطة الآتية:

1-   النظر الفلسفي لحقيقة اللغة

 

  الضمان الإلاهي  

  العقل (آلة التفكير)

 

أداة العقل (اللغة)

 

         المقولات (أدوات الإنتاج)

 

 

 

الضمان الإلاهي:

لكي نبحث عن حقيقة اللغة نحتاج إلى مفهوم الضمان الإلاهي، وقد جاء عند ديكارت أن البحث عن الحقيقة يبدأ من القطع مع عملية الشك، فنحن بحاجة إلى الإيمان بالله من أجل أن نثق في العقل، وفي قدرته على أن يفكر ويقودنا بهذا التفكير، وهذا نظر معظم فلاسفة العقل، بينما التيار الفلسفي الذي انتقد الأساس الإيماني (..Hidger)، انتهوا إلى عدمية المعنى.

العقل:

"العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس"4

ينطلق (كانط ) في كتابه نقد العقل الخالص من التساؤل، كيف للعقل الفيزيائي أن يتفوق على العقل الفلسفي؟ فأدرك أن الفلسفة لم تدرس العقل بل استعملته فقط، وخلص إلى أن الفلسفات منذ نشأتها استعملت آلة (العقل) دون دراستها، فقبل أن تستعمل الفلسفة العقل (الآلة) كان يجب أن تدرس إمكاناته، وهذه محطة فاصلة في تاريخ الفلسفة نادى فيها كانط ببحث العقل وبحث إمكاناته.

كان على الفلسفات أن تبحث في إمكانات العقل وحدوده أيضا، قبل أن تبحث في الألوهية والوجود، هل بإمكان العقل أن يحسم في سؤال الوجود؟ هل للعقل حدود؟ وهل يمكن للمحدود أن يدرك اللامحدود؟

إن إعمال النظر والتأمل في بداية المقال كان جوابا لسؤال، كيف نستخدم العقل؟ وماهي حدود اشتغاله؟ وإن اتضح لنا أنه لابد من أداة لتحريك أو استخدام آلة العقل فقد أدركنا أنها "اللغة" وهي تشكل أيضا حدود اشتغاله حيث يتوقف العقل بتوقفها، ونمثل لهذا بما تمنحه الطاقة الكهربائية للآلة فتكون عاملا رئيسا في اشتغالها وتتوقف بغيابها.

فماهي هذه الأداة التي يتوقف العقل بتوقفها؟

 

اللغة أداة العقل:

عندما نقول: إن حدود العقل تبدأ عند اللغة وتنتهي عندها، نكون قد قمنا بتعيين حدود اشتغال العقل، ويترتب عنه أن ما وراء هذه الحدود يصبح قول العقل لاغ وغير مشروع، فالمحدود لا يمكن أن يدرك اللامحدود، وهنا انتقاد صارم للتيار الإلحادي الذي استعمل العقل في نفي الألوهية.

نتج عن عملية كانط النقدية أن العقل ليس صفحة بيضاء تملؤها التنشئة المجتمعية كما جاءت به التجريبية مع (دافيد هيوم وجون لوك)، وليس أفكار فطرية كما جاءت به العقلانية مع (ديكارت)، إذن كيف تنتج اللغة؟  

 

 

المقولات أصل اللغة:

عندما ألغى كانط النظرية التجريبية ونظرية الأفكار الفطرية جاء بمفهوم المقولات القبلية، " les catégories transcendantales"، وليست الأفكار القبلية، والفرق بينهما، "أننا عندما نتحدث عن الفكرة فنحن نقول بأن العقل يحتوي على أفكار جاهزة، لكن عند الحديث عن مقولات فنحن أمام أدوات منهجية للعقل"5، معناه أن العقل يحمل مقولة منهجية قبلية بها تنتج الفكرة، هنا نتحدث عن المقولات باعتبارها الأدوات المنهجية للعقل، ونمثل لهذا بالجدل القائم حول مفهوم الحدس، فهناك من يعتبر أن الحدس هو فكرة جاهزة، وهذا ما نجده في المعاجم، فيعرفونه على أنه المعرفة المباشرة بدون توسط، في حين ذهب بعض الفلاسفة والعلماء إلى اعتبار الحدس نتاج عمل، "إنما العقل كان في لحظة تعب، لكنه يختزل كل تلك العمليات الفكرية والذهنية السابقة، ثم في لحظة معينة دفع بذلك الحل من تلقاء ذاته عن سابق اشتغال عقلي رياضي، مثال: القول على أن نيوتن عندما سقطت عليه التفاحة اكتشف الجاذبية لا يصح، بل اكتشفها عن تفكير واشتغال مسبق في الموضوع"6

فماهي هذه الأدوات المنهجية؟ وكيف تكَون مقولات؟

3- بين مقولات تنظيم الوجود ومقولات انتاج اللغة

اختزل أرسطو المقولات المنطقية في عشر مقولات لتنظيم الوجود أنظر المقولات لأرسطو، "لكن كانط لم يكن يطلب هذا الاختزال، وكان يقصد أن العقل لا يحمل هذه المقولات بل يحمل القدرة على انتاجها، فمثلا مقولة الزمن موجودة في العقل عند أرسطو، بينما كانط يعتبر أن العقل لا يحمل مقولة الزمن جاهزة، لكنه يحمل مقولات يستطيع من خلالها تنظيم وجوده في الوجود، ولكي يحصل على هذا التنظيم احتاج مقولة الزمن، وفي إمكانه الذاتي هذه المقولة، فأدخل معطيات الوجود إليه (الشروق، الغروب..) ونظم حركة الوجود وفق السيرورة الزمنية"7، فكانت الأيام والشهور والسنوات.


وضع كانط بدل مقولات أرسطو اثنا عشرة مقولة وهي: الوحدة، والكثرة، والجمع، والإيجاب، والسلب، والحدود، والجوهر، والعلية، والتبادل، والإمكان، والواقعية، والضرورة، ووزعها في أربع مجموعات، وهي الكيفية والكمية، والعلاقة والنموذجية.8


بالرغم من توصل كانط لنظرية قوية جدا لا تختزل المقولات المنطقية في مقولات جاهزة يحملها العقل، بل في كون العقل في إمكانه الذاتي انتاج هذه المقولات، إلا أنه أغفل مقولة اللغة، وأعتقد أن الأمر يعود لصرامة هذه النظرية في تحديد مسار انتاج المقولة والذي لابد من أن تتوفر فيه معطيات مادية يستطيع العقل استشعارها، الشرط الذي لا يتوفر في مقولة اللغة، فنحن في الوجود لدينا الحركة على سبيل المثال الشروق والغروب والتنقل من مكان لآخر..، لكن ليس لدينا في الوجود المادي معطيات يدخلها العقل كي ينتج لنا النسق اللغوي، الذي يقسم الألسن إلى اسم وفعل وصفة..، ليس تقسيمها فقط بل تصنيفها بشكل عال الدقة، وفي اعتقادي هذا نقد لمقولات كانط أيضا كونه جعل المقولات المتعالية القبلية، مقولات إدراكية، كما فعل أرسطو تماما، غير أن أرسطو اختزل الوجود في مقولات جاهزة وكانط حصرها في مقولات ينتجها العقل عبر إدراكه أو استشعاره للوجود حوله، وبهذا تكون مقولات أرسطو وكانط مقولات  تواضعية، قد تختلف باختلاف الإدراك، ومقولة اللغة إلهامية.


   وقد اتجه علم النفس المعاصر إلى شد العقل نحو التفكير اللغوي، وأكبر نقد لمقولات أرسطو ليست لمنطقي بل هي لعالم اللسانيات (إيميل بنفنيست ت 1976م)، الذي استرجع المقولات الأرسطية ليؤكد أنها مجرد مقولات لغوية، بينما ربطها الدكتور الطيب بوعزة بالآية التي انطلق منها هذا المقال وينتهي إليها، {وعلم آدم الأسماء كلها} بمعنى إقدار آدم على مقولات اللغة، ويؤكد هذا التفسير كلمة "كلها" فالأسماء بمعنى المقولات اللغوية ليست هي اللغة (المفردات) بل هي القدرة على ابداع اللغة (النسق).

 

خلاصة:

2-   النظر اللساني لحقيقة اللغة

         الأصل                                                                                

        الضمان الإلاهي  

      

        العقل (آلة التفكير)

                  

                    أداة العقل (المقولات) القدرة

         الفرع                                   ↓                                   

             اللغة (الإنتاج) المفردات

 

 


المراجع

1-   ابن جني، الخصائص، ص 40-41

2-   ابن فرس، الصاحبي، ص3

3-   حلمي خليل، مقدمة لدراسة فقه اللغة، ص12

4-   ديكارت، مقال في المنهج

5-   د الطيب بوعزة، مقدمات أولية في الفلسفة واتجاهاتها، ح2، ج2

6-   المصدر نفسه

7- المصدر نفسه


8-    

  LES CATEGORIES STRUCTURENT LA LOGIQUE TRANSCENDANTALE

DE LA CRITIQUE DE LA RAISON PURE DE KANT

 

 

 

 

 

                            

تعليقات